إبراهيم عيسى يكتب للدستور والتحرير: فبراير ـ يوليو
Fri, 15-07-2011 - 9:59 | إبراهيم عيسى
هذا ما كتبته في أوراقي عن اعتصام ميدان التحرير في الأسبوع الثالث من فبراير الماضي، أقرأوه ثم أقول لك قصدي من نشره في الأسبوع الثالث من يوليو الحالي.
(في ميدان التحرير كانت مصر مجمعة ومصغرة ومنتخبة، الذين ناموا معتصمين بالأمس في الميدان صحوا فوجدوا أنفسهم أكثر، كانت الدبابات تحيط بمداخل الميدان، وضباط يديرون عملية تفتيش روتينية للدخول، مما أوجد إحساسا بالأمان والتحرر من الشرطة القامعة ، زاد العدد مدفوعا بالحماس والتصميم ، واتسعت مساحات تمثيل الشعب داخل الميدان ، على عكس ما يتم الترويج له ، فالمؤكد أن الشباب الداعي للمظاهرات لم يكن الحصة الغالبة في اعتصام التحرير الليلي ، بل كان أقلية لا تتجاوز مئات من الشباب الليبرالي واليساري ، إضافة إلى عشرات آخرين من شباب الإخوان المسلمين ، لكن الشاهد أن عددا هائلا من غير المنظمين حزبيا ولا سياسيا ومن كل الأجيال ، من العجائز والكهول حتى الأطفال ، ضمن عائلات بالكامل استوطنوا الميدان وطنا.
الوجوه الصباحية في الميدان كانت من شتى المنابع الطبقية والثقافية ، الخليط الرئيسي المكون من جمهور الطبقة المتوسطة الذي بدأت نسبته تتراجع حتى يوم تنحي مبارك ، كانت الطبقات الشعبية تقريبا قد تصدرت الوجود اليومي والاعتصام الليلي . مثقفو وسياسيو القوى الوطنية قادوا سطح الميدان المرئي تليفزيونيا ، لكن الحقيقة أن عمق الميدان المتسع العريض غير المرئي كان من ريفيي القاهرة ومتمدني الأرياف ، بمعنى هذا الحضور المتعاظم من أطياف أحياء ومناطق القاهرة الشعبية يحملون روح الفداء والاستبياع والقدرة على المرمطة في الشارع من أجل هدف سامٍ . كذلك المتمدنون من الأرياف ، هؤلاء المبادرون والمسيسون دون تنظيمات ، والمثقفون دون انتماء لمقاهي وسط البلد أو لشاشات التحليل السياسي التليفزيونية ، هم الذين وفدوا من الريف للمشاركة في اللحظة والإنصهار في الكتلة ، خصوصا مع تركز الضوء على التحرير الميدان ، وتراجع الكثافة التظاهرية في بقية عواصم الأقاليم أو قراها ومراكزها .
تحول الميدان عبر أيام التحرير إلى مرآة مصر العاكسة وعوامة مصر الغاطسة ، عاكسة : مصر المتعددة المتسامحة المتعايشة المحتوية المستوعبة ، غاطسة : مصر التي لم تكن ترى جوهر نفسها ، وهي غارقة تحت ركام القمع والبلادة .
وكذلك كان التحرير من حيث لم يخطط كاشفا ، وليس مخترعا لمصر المبدعة ، حتى وهي في عز غضبها بدت أنها بلد مبدع فعلا .
الاعتصام في ميدان هو الأكبر والأكثر ربطا بين أمعاء عاصمتها كان أشبه بضربة فارس في قلب عدوه ، يعرف أين يوجع ؟ وفي أي منطقة من الجسد يقتل ؟
ميدان التحرير للمفارقة ليس اسمه رسميا "التحرير"، فالموثق أن اسمه ميدان محمد أنور السادات، هناك لافتة زرقاء معلقة عند سور مبنى وزارة الخارجية القديم تقول بوضوح إنه ميدان أنور السادات، وقد أطلقوا على الميدان اسم الرجل بعد اغتياله، أما محطة مترو الأنفاق - تحت أرض ميدان التحرير- فهي محطة السادات التي منحه إياها مبارك في أول حكمه، حيث كان لا يزال يعتقد أنه يستمد شرعيته من سلفه وهنا حيث وقف فوق سقفها ملايين المصريين يطالبون برحيل مبارك ، لكن على طريقة المصريين ، فإنهم تجاهلوا الإسم الفوقي والإسم التحتي النفقي، وتعايشوا مع ميدان التحرير، على أن اسمه التحرير ولا شأن لنا بما فعلت فيه أو سمته دولة مبارك!
كانت الأعداد تزداد وتتكاثف وتتكاتف.
الميدان منبر ونافذة.
هذا بالضبط ما ذهب له المصريون.
التحرر من العبودية الناعمة للاستبداد وأكل العيش المغموس بالقهر والإهانة.
التطهر من رجس السكوت الطويل والخضوع وتمشية الحال وطأطأة الرأس وانحناء الأعناق ومذلة التعايش مع القبح ومع الكره.
الاستدفاء.. فها هو أخيرا في البلد مكان نستمد فيه دفئا من بعضنا، فالمسلم مع المسيحي بلا ضغائن ، لا إحن بلا بثور التقيحات التي نثرها التعصب والتطرف والأدمغة الملوثة بالجهل، والتوحد بين المختلفين بعد سنوات من الأنانية والأناملية ويلّا نفسي، التوحد بعد التحلل .
التأكد من أننا فعلناها ، كان الوجود في ميدان التحرير أشبه بالإمساك بالشيء خشية ألا يكون حقيقيا وكأنه حلم ، يذهبون يجلسون ويقفون ويهتفون ويمارسون عنفوان حريتهم للتأكد أنهم تحرروا فعلا.
التصميم على كسر حاجز الخوف ، والإصرار على الخروج من النفق ، يستمد الفرد من المحيطين به أمل القوة وقوة الأمل ، التثبت من أننا على حق والثبات على الحق .
التشارك في صناعة تاريخين ، تاريخ للبلد يكون المتظاهر والمعتصم في التحرير جزءا منه وتاريخ للمتظاهر نفسه يسجله مختوما في ذكرياته التي يرويها حتى يموت .
كان الغضب في التحرير عارما ، لكنه كان غضبا نبيلا، غضبا لا يكسر ولا يحطم ولا يخرب غضب المتسامحين ضد التعصب ، غضب الأحرار ضد العبودية ، غضب الكرامة ضد إهدارها ، غضب الكبرياء في مواجهة المذلة ، غضب الحجيج ضد الشيطان).
هل قرأت سطوري جيدا؟
حاول إذن أن تجدها في معتصمي التحرير هذه الأيام!
اوعى ماتسيبش رد

